ربما لم ينجح حدث دبلوماسي في التاريخ المصري المعاصر في إحداث هذا القدر الهائل من الجدل حوله كما فعلت معاهدة السلام مع إسرائيل، التي وُضع إطارها الأساسي في كامب ديفيد، ففريق يراها لحظة عار واستسلام، وفريق يراها إنجازاً سبق عصره لم تستوعبه عقول المعارضين، وكلاهما يراها زلزالاً دبلوماسياً غيَّر وجه المنطقة وأعاد رسمها من جديد، فمنذ إبرام الاتفاق دخلت المنطقة في عصر كامب ديفيد، وما زالت فيه حتى اليوم.
ويعد كتاب السلام الضائع الذي كتبه محمد إبراهيم كامل، وزير الخارجية المصري آنذاك، وثيقة مهمة، تُدوِّن كواليس المباحثات مع إسرائيل في منتجع كامب ديفيد بالولايات المتحدة عام 1978.
ورغم الأهمية الفائقة للكتاب، فإنه لم ينَل حظه اللائق من الشهرة والانتشار، وحلت محله أقاويل وشائعات وانطباعات شكَّلت الوعي الشعبي العام عن معاهدة السلام، وكثيراً ما ارتبطت بمفهوم الفرص الضائعة، ولوم الفلسطينيين والعرب على عدم انضمامهم لركب السادات، بينما يخلص وزير الخارجية إلى أن مبادرة السلام هي التي ضاعت في كامب ديفيد وتجردت من محتواها الحقيقي خلافاً للرؤية السائدة.
كانت المدة القصيرة التي قضاها كامل وزيراً للخارجية فترة مفصلية في تاريخ مصر والعالم العربي والإسلامي؛ فقد شهدت انخراط القاهرة في عملية السلام مع كيان الاحتلال، وبالتالي بداية مرحلة جديدة معاكسة لمسيرتها السابقة التي شهدت عدة حروب بين الطرفين، كانت مصر خلالها تقود جهود مواجهة المشروع الصهيوني.
يُؤرِّخ الكتاب لعشرة شهور قضاها محمد إبراهيم كامل وزيراً لخارجية مصر خلفاً لإسماعيل فهمي، الذي استقال احتجاجاً على المبادرة، وخلال تلك الفترة لم يكن كامل من المعارضين لفكرة السلام كمبدأ، لكنه تحول إلى أشد الرافضين للكيفية التي دارت بها المفاوضات، ويرى أن مبادرة السادات للسلام تم تقويضها من السادات نفسه، بسبب تلهفه على إنجازها، وتعرضه لهجوم العرب عليه، وخروجه من عرينه العربي، وفقدانه لدوائر تأثيره، وانسياقه وراء السراب الأمريكي، وتشدد مناحم بيجين، رئيس وزراء إسرائيل، معه، على حد وصفه.
يشرح كامل في بداية كتابه صلته المبكرة بالسادات خلال اشتراكهما في شبابهما في العمل الفدائي السري ضد الاحتلال الإنجليزي وأعوانه في مصر، واعتقالهما معاً في قضية اغتيال وزير المالية، أمين عثمان، واشتراكهما في إفساد القضية عبر تنسيق الأقوال بينهما لإنكار التهم.
ويقفز مباشرة ليصل إلى مرحلة عمله سفيراً لمصر من بداية عام 1968 إلى أواخر 1977، ما بين الكونغو إلى السويد إلى ألمانيا الغربية، ويركز الكتاب على فترة تبدأ بأزمة زيارة السادات للقدس في 19 نوفمبر 1977، وتستمر حتى يوم توقيع الاتفاقية في 17 سبتمبر 1978، وهي الفترة التي قضاها وزيراً للخارجية.
ففي 19 نوفمبر استقال إسماعيل فهمي وزير الخارجية احتجاجاً على رحلة السادات للقدس، تبعها إعلان استقالة محمد رياض من الوزارة أيضاً عقب تعيينه بست ساعات، وفي اليوم التالي استقال مراد غالب، سفير مصر في يوغوسلافيا ووزير الخارجية السابق.
وفي 25 ديسمبر علم كامل بتعيينه في منصبه بطريقة الصدمة، فزوجته هي التي أخبرته بالقرار عقب إذاعته في وسائل الإعلام، دون أن يستشيره أحد أو حتى يلمح له بذلك، وفي اليوم التالي كان المطلوب منه قيادة جهاز الخارجية في مباحثات مع وفد إسرائيلي، دون أن يكون لديه خلفية عما دار في المباحثات السابقة.
يشكو كامل من شخصية السادات الارتجالية في التفاوض مع الإسرائيليين، وإخفائه لحقيقة ما يريده عنه، فكان كلاهما يقول كلاماً مختلفاً عن الآخر في الاجتماعات الخاصة، مما كان يثير دهشة من يسمعهما، ويرى كامل أن لقاءات السادات الثنائية مع الزعماء من أخطر العوامل التي دمرت مبادرته، بسبب ما صدر منه خلال تلك اللقاءات من تنازلات وتجاوزات وتعهدات جعلته مُفلساً في النهاية.
ويفسر التنازلات التي استطاع الإسرائيليون انتزاعها من السادات بأن سببها ما رأوه منه من تساهل في اتفاقية فض الاشتباك الثانية، مما أوحى لهم بإمكانية الحصول على المزيد من التنازلات، وهو ما حدث، بل إن واشنطن أحاطت السادات باتفاقات سرية وقعتها مع إسرائيل تتضمن التزاماً أمريكياً بتسليحها وموافقتها سياسياً في كثير من الأمور، ووافق عليها السادات.
وظل السادات يتفاوض منفرداً، ولم يكن يخبر وزير الخارجية بتفاصيل أحاديثه تلك، رغم كونها في صميم عمله.
ينطلق كامل في تحليل شخصية السادات؛ فيقول إنه كان يتأثر بالمدح والإطراء إلى حد السكر، ويتسرع في إضفاء وصف الصداقة على الغرباء حتى حظي بها مناحم بيجين! وكان يتصرف فيما بعد وفق ذلك، فيتبسَّط في الحديث مع هؤلاء الأصدقاء المفترضين ويبوح لهم بمكنوناته، وإن جالس أحداً «غنَّى على هواه»؛ فإن كان أمريكياً هاجم السوفييت، وإن جالس مغربياً هاجم الجزائر، وهكذا.
في بعض الأحيان كان يتسم بالبساطة والتواضع، وأحياناً أخرى يتسم بالتعقيد والتعالي، وأحياناً يكون هادئاً ثم يشتط به الغضب دون مبرر ظاهر، وأحياناً يكون واضح الفكر قوى المنطق منطلق الحديث، وأحياناً أخرى يكون شارد الفكر عاجزاً عن الكلام أو إيضاح ما يريده أو وجهة نظره، أو ينصرف إلى أحاديث فرعية أو بعيدة عن جوهر الموضوع محل البحث.
وفي بعض الأحيان كان متفتحاً يستوعب تماماً ما يقرؤه أو يسمعه، وفي أحيان أخرى يصيبه الخمول وعدم المبالاة، فلا يقرأ ولا يسمع أو يستوعب مهما كانت أهمية الأمر.
ومن أهم الجمل التي وردت في الكتاب، وتُلخِّص الكثير من الأمور: «السادات لم يكن ذا ثقافة عميقة تربط فكره وتحدد معالم شخصيته وتؤثر على مسلكه وتقيه من التناقضات».
فكان يقتبس من القرآن الذي حفظه في طفولته، ويستشهد بما قرأه في مقال أو شاهده في فيلم أجنبي، أو المطبوعات التي لم يجد سواها خلال سجنه، وأغلبها بوليسية، وكان أحياناً يُسلِّم بتفسير خصمه وشرحه لأمر ما خشية أن يبدو أمامه جاهلاً بالبديهيات، ولم يتخلص من أسلوب عضو الجمعية السرية الذي يخطط في الخفاء.
وصارت المشكلة الأولى بالنسبة لوزير الخارجية هي تصرفات الرئيس العفوية التي يفاجئه بها دون سابق إنذار، والتي تشكل خروجاً وانحرافاً عن الخط السياسي والتكتيكي المتبع، مما يتطلب جهوداً إضافية لإصلاح الأمور. وعلى عكس ذلك كان مناحم بيجين، الذي لا يقدم على خطوة قبل أن يقتلها بحثاً مع مجلس وزرائه، ولجان الكنيست والمستشارين والخبراء، ويجلس معهم بالساعات.
كذلك كان الحال في الولايات المتحدة، حيث خصَّص الرئيس كارتر جانباً كبيراً من وقته للتحضير لمؤتمر كامب ديفيد، إلى حد أنه كان يمضي أياماً وليالي بأكملها بعيداً عن واشنطن يختلي فيها بمعاونيه ومستشاريه لهذا الغرض.
بينما كان السادات يتجول بين استراحاته في المعمورة والإسماعيلية والسويس وبورسعيد، وكان وزير الخارجية يتصل به تليفونياً حيثما كان ليحيطه علماً بما يعمل ولاستطلاع رأيه في بعض النقاط، فكان يشعر منه بعدم الاكتراث. وكان غالباً ما يوافق على كل ما يقول أو يبدي بعض الملاحظات الثانوية غير المفيدة.
يروي كامل تفاصيل دقيقة عن كيفية إدارة مشهد التسوية والمفاوضات مع إسرائيل، ويقص بإسهاب مواقف تنم جميعها عن عشوائية وارتجالية في عملية اتخاذ القرار، فمثلاً يروي أن السادات في اليوم التالي لتعيينه وافق على تشكيل لجنتين مشتركتين سياسية وعسكرية قبل أن تبدأ المفاوضات في الإسماعيلية بين الطرفين.
فُوجئ وزير الخارجية ذات يوم بأن سفير مصر في واشنطن حضر لقاءً بين رئيس مجلس الشعب المصري ومستشار الأمن القومي الأمريكي، وتوصل الطرفان إلى تفاهمات مكتوبة دون إخباره، وكان محتواها يخالف الموقف المصري المعلن بخصوص عدم إجراء تسوية منفصلة للانسحاب من سيناء، وعلم الوزير ذلك بمحض الصدفة.
وفي أول اجتماع للجنة السياسية المشتركة، قرر السادات فجأة سحب الوفد المصري من القدس مما أربك الجميع.
وخلال الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1978، دعا وزير الدفاع الإسرائيلي، عيزر وايزمان، لزيارته في القاهرة خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب بها، مما شكَّل إحراجاً كبيراً لمصر، ودعاه مرة ثانية لمقابلته في النمسا؛ حيث تحدث معه عن استعادة العريش وجبل موسى مُتجاوزاً الحديث عن مشروع السلام الشامل الذي يتضمن الضفة الغربية وغزة، مما اعتُبر «نشازاً وخروجاً عن خطنا الثابت المعلن والتحول إلى مسائل هامشية لا قيمة لها»، على حد وصف وزير الخارجية.
بالإضافة إلى مقابلته لرئيس حزب العمل الإسرائيلي، شيمون بيريز، في فيينا؛ حيث أقر وجهة نظر إسرائيل في الأمن الإقليمي، وأكد أنه يتفق تماماً مع رؤية بيريز. وقال للأمين العام للأمم المتحدة إنه يتبنى صيغة تقوم على التوازن بين أمن إسرائيل وتطلعات الشعب الفلسطيني.
تحفل هذه المذكرات بمواقف صدام الوزير مع الرئيس، وما يلبث القارئ أن تعتريه شحنة عاطفية مؤثرة ويتشارك أحاسيس القلق والصدمة والغضب مع الكاتب، الذي استطاع بقلمه البليغ تحميل سطوره حرارة المواقف التي لم يكن شاهداً عليها فقط، بل كان جزءاً منها، وأدى دور البطولة في معظمها.
فمرة يُثني على صلابة السادات في مواجهة الضغوط ويُقبِّل جبينه، ومرات كثيرة أخرى يتصادم معه جراء إفراطه في التنازلات المفاجئة، وأحياناً يعقد الإحباط لسانه فيسكت من فرط الدهشة والذهول. ووصل في آخر الأمر إلى أن عجز عن التعامل مع الرئيس، فذات مرة كان جالساً هو وأعضاء الوفد مع السادات في كامب ديفيد، وبينما كان شارد الذهن سمع الرئيس يعلو صوته الغاضب قائلاً: «وماذا أفعل إذا كان وزير خارجيتي يظن أنني أهبل؟» ثم صاح: «اتفضلوا اخرجوا بره كلكم»، وكررها مرتين!
وفي أحد الاجتماعات أثار أحدهم مسألة احتمال اعتراض الفلسطينيين على الاتفاق لأنه لم ينص على حقهم في تقرير المصير، فبرر السادات ذلك بأن كارتر قال له إن هذه العبارة ستفقده كرسي الرئاسة، وحينها يذكر كامل أنه لم يستطِع أن يكبح لسانه وانفجر صارخاً: «أهذا هو رئيس أقوى دولة في العالم؟ أهذا هو القديس الذي كان يدعي أن الدفاع عن حقوق الإنسان والمبادئ والقيم هو محور سياسته؟ إنه ابن كذا وابن كذا … أمن أجل أن يظل رئيساً لأمريكا ثماني سنوات بدلاً من أربع يضحي بمصير شعب بأكمله؟ يا له من تافه حقير».
يقول كامل: «ساد سكون مطبق، والجميع يترقب رد السادات، وكنت أشعر أنه لو كان أمامه سكين في تلك اللحظة لأغمده في صدري، فقد أحس أن ما فعلته غير موجه إلى كارتر، وإنما موجه إليه أيضاً. وبعد فترة قهقه السادات بصوت عمیق درامي. وقال وهو يضع يده على كتفي: أصلك أنت يا محمد مش سياسي، وقلت: إذا كانت هذه هي السياسة فإنه يشرفني ألا أكون سياسياً. ونهض السادات واقفاً وانفض الجمع».
استبدت بكامل أسوأ المشاعر وهو يرى سيل التنازلات المصرية في مقابل تصلب اليهود عند موقفهم دون أن يتزحزحوا عنه، ورأى نفسه وحيداً مهزوماً في معركة خاسرة خصمه فيها رئيسه قبل عدوه، وتسيطر على تفكيره الكوابيس المرعبة، ويقول: «أرى صوراً ومشاهد مما قرأت أو سمعت عما تفعله إدارة المخابرات المركزية الأمريكية ومنظمة الموساد الإسرائيلية، ماذا لو تخلصوا مني بشكل أو بآخر تحت ستار حادث عارض أو زعم مرض مفاجئ، بل ماذا أفعل لو انفض المؤتمر ومشى أصحابه وتُركت بلا صاحب، لا مال معي ولا حتى جواز سفر يقول من أنا؟ وماذا عن مستقبلي ومستقبل عائلتي وأولادي وكيف سيعاملني السادات بعد تمردي وعصياني؟ إني من واقع علاقتي بالسادات والمركز الذي وصلت إليه، وأنا بعد في منتصف العمر. أما لو هادنته وسايرته، فكل ما يمكن أن يصوره أو يحققه الخيال الطموح من مال أو جاه أو نفوذ حتى منصب رئيس الجمهورية نفسه ليس بمستبعد».
وانتهى أمره إلى الاستقالة قبل توقيع الاتفاق بيوم واحد، بعد أن طاردته وصايا والده قبل أن يموت بألا يتنازل عن مبادئه، وأحس أنه في اختبار صعب؛ للاختيار بين أن يخسر نفسه أو يخسر منصبه، فرأى الثانية خيراً له من الأولى، فتقدم باستقالته سراً كي لا يحرج رئيسه في هذا الظرف الحساس.
كان السادات حريصاً بأي ثمن على نجاح مبادرته حتى لا يشمت فيه الزعماء العرب، وعندما كرر كامل حديثه مع السادات عن أهمية استشارة العرب قال له: «إنك لا تعلم شيئاً عن العرب. اسألني أنا، إنهم لو تُركوا وشأنهم فلن يحلوا أو يربطوا، وسيظل الاحتلال الإسرائيلي قائماً إلى أن ينتهي إلى التهام الأراضي العربية المحتلة دون أن يحرك العرب ساكناً، غير الجعجعة وإطلاق الشعارات الفارغة».
اتفق الأمريكيون مع الوفدين المصري والإسرائيلي على عدم مغادرة منتجع كامب ديفيد بدون التوصل لاتفاق، وأحس المصريون أنهم في سجن، وبعد 12 يوماً من التفاوض الفاشل، قرر السادات مغادرة كامب ديفيد فجأة، وأمر الوفد المصري بحزم حقائبهم. حاول وزيرا الخارجية والدفاع الأمريكيان إقناعه بالتراجع دون جدوى، ثم جاءه الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، وجلس معه على انفراد، فعاد السادات إليهم بعد دقائق متغيراً تماماً، وقال إنه سيوافق على الاتفاق، وسيجعله رهناً بتصديق مجلس الشعب المصري عليه.
فلما سأله وزير الخارجية: ما هو الاتفاق الذي سنوقع عليه؟ فأجاب: سأوقع على أي شيء يقترحه الرئيس الأمريكي كارتر دون أن أقرأه. وساد الصمت، فرد الوزير وهو يتمالك أعصابه: ولماذا يا ريس توقع عليه دون أن تقرأه؟ إذا أعجبنا فعلنا، وإلا فلا نوقع. فهبَّ السادات واقفاً وقال بصوت ملأه التحدي: بل سأوقع عليه دون أن أقرأه، واستدار وغادر التراس إلى داخل غرفته!
يشير كامل إلى أن مناحم بيجين، رئيس وزراء إسرائيل، لم يقنع بكل ما حصل عليه من تنازلات غير مسبوقة، فلم يكل ولم يمل في الساعات الأخيرة السابقة على توقيع الاتفاقية، وظل يحاصر الرئيس كارتر بالإلحاح والاستجداء والوعيد ويبتز منه تنازلاً وراء تنازل، فلا يجد كارتر - وقد بات فريسة التلهف على توقيع الاتفاقية بأي شكل وبأي ثمن في خلال هذا اليوم - مناصاً من أن يعود إلى السادات ويقتطع من لحمه تلك التنازلات. وهل يضير الشاة أكلها بعد ذبحها؟!
وبعدما فاض به الكيل، لخص وزير الخارجية المصري لمساعديه الأزمة قائلاً: «إن المشكلة ليست في الموقف الإسرائيلي المتشدد ولا في الخنوع الأمريكي لإسرائيل، وإنما المشكلة الحقيقية في الرئيس السادات نفسه، فقد استسلم للرئيس كارتر تماماً الذي استسلم بدوره لمناحم بيجن، وأن أي اتفاقية ستبرم في نهاية الأمر على هذا الأساس ستكون كارثة على مصر وعلى الشعب الفلسطيني وعلى الأمة العربية جميعاً، وقد حِرت تماماً في تفسير مراميه وسلوكه وتصرفاته غير المفهومة، وانتهى تفكيري إلى أنه إما أن يكون في حالة انهيار تام سلبه إرادته، أو أن تكون التكنولوجيا الأمريكية قد نجحت في السيطرة عليه وتوجيهه مغناطيسياً، وإما أن يكون قد أُصيب بالجنون والعمى معا،ً أو اختار أن يكون عامل الولايات المتحدة في الانحراف بمصر نحو الانضمام إلى حلف استراتيجي أمريكي إسرائيلي مصري».
ورغم خطورة وأهمية القدس، تم الاتفاق بين الرئيسين كارتر والسادات على إسقاط الإشارة إليها في اتفاق السلام، وبدلاً من ذلك، كتب السادات خطاباً يقول فيه: «إن القدس العربية جزء لا يتجزأ من الضفة الغربية ويجب أن تخضع للسيادة العربية».
يقول محمد إبراهيم كامل: «حضر إليَّ السفير نبيل العربي، مدير الإدارة القانونية، عندما علم بأمر هذه الخطابات المتبادلة حول القدس، وكان منزعجاً ورجاني بإلحاح أن أذهب فوراً للرئيس السادات لأبلغه بأن هذه الخطابات ليست لها أية قيمة قانونية أو عملية، وأنها لن تحل الموضوع. ولم أستطِع أن أخبره أنني استقلت، فقلت له: بل اذهب أنت واشرح ذلك للرئيس من الناحية القانونية، فأنت أقدر على ذلك، فقال: بل نذهب معاً، وسأتولى شرح الجانب القانوني، فقلت إنني متعب ورجوته أن يقوم بذلك وحده».
يُكمل كامل فيقول: «عاد إليَّ [السفير نبيل العربي] بعد حوالى نصف ساعة، وكان وجهه شاحباً ويبدو عليه الانفعال، وقص عليَّ القصة التالية: إنه عندما ذهب إلى استراحة الرئيس السادات وجد أن بيجين يزوره ليهنئه بالتوصل إلى اتفاق السلام، فانتظر حتى انصرافه ودخل إلى الرئيس، فسأله عما يريد، فقال إنه يريد أن يعرض عليه الرأي القانوني فيما يتعلق بالخطابات المتبادلة حول القدس، فقال له السادات تفضل بالشرح، وعندما انتهى العربي من ذلك قال له الرئيس بصوت هادئ مهذب: هل لديك شيء آخر تريد أن تعرضه عليَّ؟ فقال: لا يا سيادة الرئيس، فقال السادات: إذن اسمع ما سأقوله لك. لقد استمعت إليك كما رأيت دون مقاطعة من أجل ألَّا يقول أحد إني لا أستمع ولا أقرأ كما يشيعون عني، ولكن اعلم أن كل ما قلته لي قد دخل من أذني اليمنى وخرج من أذني اليسرى، إنكم في وزارة الخارجية تظنون أنكم تفهمون في السياسة، ولكنكم لا تفهمون شيئاً على الإطلاق، ولن أعير كلامكم أو مذكراتكم أي التفات بعد ذلك. إنني رجل أعمل وفقاً لاستراتيجية عُليا لا تستطيعون إدراكها أو فهمها، ولست في حاجة إلى تقاريركم السفسطائية الهائفة. وزيركم محمد كامل يسب اليوم أمامي الرئيس كارتر. ألا يفهم أن الرئيس كارتر هو الكارت الرئيسي الذي أحوزه لإقامة السلام الشامل».
يعود كامل لرواية ما حدث، فيقول: «وسكت الرئيس برهة ثم أضاف: ثم ألا تعلم أن قريبك محمد حسنين هيكل يهاجمني في كل مكان، وأنه يتآمر عليَّ لقلب نظام الحكم، وأنا لا أبالي بما ينشره من أكاذيب وسخافات بدافع الحقد الأسود، ولكني لن أسكت عليه في النهاية وسأقطع رقبته. تفضل بالانصراف ولا تعودوا لتتعبوا رأسي وتضيعوا وقتي بأسانيدكم القانونية الفارغة».
ويروي كامل أن الكلام كان يندفع بسرعة من فم نبيل العربي وهو يقص ما جرى بجدية، وكانت أعصابه ما زالت مضطربة من هول ما قاله له رئيس الجمهورية، وعندما انتهى من كلامه انتابتني نوبة طويلة من الضحك. وشر البلية ما يضحك. ونظر إليَّ نبيل العربي بدهشة، ثم لم يلبث أن انضم إليَّ وشاركني الضحك.
# مذكرات وزراء خارجية مصر # كامب ديفيد # سياسة # تاريخ # مصر # إسرائيل